في 1 حزيران 1453، وصل السُّلطان محمّد الثّاني إِلى كنيسة "آيا صوفيا"، ودخلها مع قادته، وصلى فيها صلاة الجمعة، في حُضور شيخ الإِسلام، لتنتهي حقبةٌ مجيدةٌ من تاريخ تلك الكنيسة الرّائعة!. ولاحقًا، حاول الكثير من السّلاطين تقليدها، واستقدموا بعد سنواتٍ، مُهندسًا من أُصولٍ أَرمينيّةٍ روميّةٍ كان اعتنق الإِسلام لانقاذ أَهله وبلدته، وكان يُدعى "سنان"، غير أَنّ كُلّ ما بناه... بقي تقليدًا باهتًا أَمام شُموخ كنيسةٍ بُنيت قبل أَلف عامٍ مِن ذاك التّاريخ الغابر.
مواقف دوليّة مُعترضة
غير أَنّ الاعتراضات الدّوليّة اليوم، الشّديدة اللّهجة كالموقفين الرُّوسيّ واليونانيّ أَم الدّيبلوماسيّة والّتي تندرج في خانة رفع العتب ليس إِلاّ... فإِنّها تقف كلّها على عتبة تسجيل المواقف، إِذا لم تُستتبع بنهضةٍ دوليّةٍ عمليّةٍ، للحفاظ على التُّراث الحضاريّ الإِنسانيّ والمعماريّ.
فاليونان اعترضت "في شدّةٍ" على تحويل مُتحف "آيا صوفيا" إِلى جامعٍ، وأَكّدت وجوب أَن يبقى مُتحفًا، أَو أَن يعود كاتدرائيّةً مُجدّدًا، وقد تبنّت وجهة النّظر هذه دول الاتّحاد الأُوروبيّ، إِضافةً إِلى الولايات المُتّحده الّتي "ناشدت الحكومة التُّركيّة"، عبر وزير الخارجيّة الأَميركيّة مايك بومبيو، عدم المسّ بوضع "آيا صوفيا" الرّاهن. وترى اليونان أَنّها "المعنيّة الأُولى" في هذا الموضوع، بما أَنّها وريثة التُّراث البيزنطيّ، كما وأَنّ هذا الموضوع سيزيد التّوتُّر في العلاقات اليونانيّة-التُّركية المُتوتّرة أَصلاً.
وأَمّا جريدة "الأَخبار" الرُّوسيّة الرّسميّة، فقد أَوردت نقلاً عن الرّئيس الرُّوسيّ فلاديمير بوتين، وصفه خطوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتحويل "آيا صوفيا" مسجدًا، بأَنّها "جاهلة وغبيّة". وأَضاف: "لتعلم تُركيا وفكرها المريض، أَنّنا قادرون على مسحها مِن الخريطة، قبل أَن يُكمل أَردوغان حلاقة ذقنه. آيا صوفيا كنيسة، وستبقى رأس الدّولة القسطنطينيّة المشرقيّة، وليُفكّر (أَردوغان) جيّدًا ماذا فعل، فغدًا ستشرق الشّمس، ويضمحلّ غُبار السّوداء"...
أَخطاء أَردوغان الفادحة
لقد أَخطأ الرّئيس التُّركيّ في تناسي الهُويّة الأُوروبيّة لكنيسة "آيا صوفيا"، كما وتناسى أَيضًا وثيقة "الأُخوّة الإِنسانيّة" المُوقّعة في أَبو ظبي مِن البابا فرنسيس وشيخ الأَزهر أَحمد الطيّب. وأَمّا على الصّعيد الاقتصاديّ، فقد تناسى أَردوغان أَنّ روسيا، حرمت تركيا سابقًا، من وصول نحو مليوني سائحٍ روسيٍّ إِليها، بقرارٍ "بوتينيٍّ"... وكذلك تناسى أَنّ مُصطفى كمال أَتاتورك، إِنّما أَراد مِن تحويل كاتدرائيّة "آيا صوفيا" مُتحفًا، عام 1934، تعميم الفكر العلمانيّ في تُركيا، نقيضًا لما يفعله هو اليوم.
وأَمّا جماعة "الإِخوان المُسلمين"، الّتي يُعتبر أَردوغان مِن تلامذتها، فهي في أساس تأْسيس كُلّ المدارس التّكفيريّة الّتي نشأَت بعدها، سواء "حركة طالبان" المدعومة وهابيًّا، أَو حركات الإِسلام السّياسيّ الّتي نشأَت لاحقًا، من "تنظيم القاعدة"، إِلى "داعش"، إِلى "جبهة النّصرة"، وصولاً إِلى "بوكو حرام". وكُلّ هذه المدارس منهاجها واحدٌ: فكر بن تيمية الّذي وضع مبادئ تكفير أَيّ آخر لا يعتمد التّشدُّد الحاقد حتّى على المُسلمين الرّافضين التّكفير، قبل سواهُم من "الكُفَّار"!.
وأَخطاء أَردوغان مردُّها سلسلة إِخفاقاتٍ سياسيّةٍ له، وضمنها الضّربات التي تلقّاها في سوريا، وعدم تحقيق حلمه السُّلطانيّ في الوصول إِلى "المسجد الأُمويّ" في دمشق، وسقوط حلمه الأَكبر في قبول تركيا عضوًا في الاتّحاد الأُوروبيّ... كما وأَنّ الرّئيس التُّركيّ يستوحي سياسته الخارجيّة من خلفيّته "الماسونيّة"، كونه "خرِّيج الماسونيّة العالميّة"، الّتي تُبرّر لنفسها أَن "تجعل من هذا العالم محفلاً لها، لتحقيق طُغيانها بكُلّ الوسائل".
ولقد استند أَردوغان في سياسته، إِلى غربٍ أُوروبيٍّ مُلحدٍ بات يبيع الكنائس ويُبيح تحويل بعضها إِلى متاحف ومراقص، ودولةٍ فاتيكانيّةٍ تُبدي فقط "الحُزن الشّديد على آيا صوفيا"، حتّى أَنّ مَن يدَّعون الاعتدال من العرب، غير مُستعدّين للقتال من أَجل "آيا صوفيا" فيما "المسجد الأَقصى" مُنتهكةٌ حرمته من الإِسرائيليّين...
ثوابت أَزهريّة
وأَوضح الوكيل السّابق للأَزهر، عباس شومان، أَنّ التّوجُّه التُّركيّ لتحويل كنيسة "آيا صوفيا" مسجدًا، "لا يتّفق مع الإِسلام، ويتنافى مع تعاليمه السّمحة الّتي تحترم دور العبادة لكلّ الدّيانات". وأَضاف: "الإِسلام يحترم دور العبادة لمختلف الدّيانات، ولا يجوز تحويل الكنيسة مسجدًا، مثلما لا يجوز تحويل المسجد كنيسةً، وهذا المبدأ مرفوضٌ في الفكر الأَزهريّ"... وتابع: "ما يخصّ الإِسلام فهو إِسلاميّ، وما يخصّ المسيحيّة فهو مسيحيّ، وما يخصّ اليهوديّة فهو يهوديّ، هذا التّصرّف (التُّركيّ) مستفزٌّ وتصرّفٌ غير مُتّفق مع تعاليم الإِسلام، الّتي عرفناها وطبّقها سلفنا الصّالح، والّذي عُرف عنهم حرصهم على مُقدّسات الآخرين ورعايتها وعدم المساس بها".
وثيقة الأُخوّة الإِنسانيّة
ولقد طعن أَردوغان في قضيّة "آيا صوفيا"، "وثيقة الأُخوّة الإِنسانيّة" الموقّعة من البابا وشيخ الأَزهر بحربةٍ!. فقد جاء في الوثيقة: " إنَّنا نحن -المُؤمِنين باللهِ وبلِقائِه وبحِسابِه- ومن مُنطَلَقِ مَسؤُوليَّتِنا الدِّينيَّةِ والأدَبيَّةِ، وعَبْرَ هذه الوثيقةِ، نُطالِبُ أنفُسَنا وقادَةَ العالَمِ، وصُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتّعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ". فهذه الفقرة من الوثيقة لا تُؤَشّر فقط إِلى فظاعة جُرم أَردوغان، وإِنّما أَيضًا إِلى مسؤوليّة كُلّ الدّول في "نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتّعايُشِ والسَّلامِ".
وجاء فيها أَيضًا، أَنّ "التّاريخَ يُؤكِّدُ أَنَّ التّطرُّفَ الدِّينيَّ والقوميَّ والتّعصُّبَ قد أَثمَرَ في العالَمِ، سواءٌ في الغَرْبِ أَو الشَّرْقِ، ما يُمكِنُ أَن نُطلِقَ عليه بَوادِر (حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ على أَجزاءٍ)، بدَأَتْ تَكشِفُ عن وَجهِها القبيحِ في كثيرٍ مِن الأَماكنِ، وعن أَوضاعٍ مَأساويَّةٍ لا يُعرَفُ -على وَجْهِ الدِّقَّةِ- عَدَدُ مَن خلَّفَتْهم مِن قَتْلَى وأَرامِلَ وثَكالى وأَيتامٍ، وثمّة أَماكنُ أُخرَى يَجرِي إِعدادُها لمَزيدٍ من الانفجارِ وتكديسِ السِّلاح وجَلْبِ الذَّخائرِ، في وَضْعٍ عالَمِيٍّ تُسيطِرُ عليه الضَّبابيَّةُ وخَيْبَةُ الأَملِ والخوفُ من المُستَقبَلِ، وتَتحكَّمُ فيه المَصالحُ الماديَّةُ الضيِّقة".
وورد في الوثيقة أَيضًا: "إِنَّنا نُؤكِّدُ أَهميَّةِ إيقاظِ الحِسِّ الدِّينيِّ والحاجةِ إِلى بَعْثِه مُجدَّدًا في نُفُوسِ الأَجيالِ الجديدةِ عن طريقِ التَّربيةِ الصَّحِيحةِ والتّنشئةِ السَّليمةِ والتّحلِّي بالأَخلاقِ والتَّمسُّكِ بالتّعاليمِ الدِّينيَّةِ القَوِيمةِ لمُواجَهةِ النَّزعاتِ الفرديَّةِ والأَنانيَّةِ والصِّدامِيَّةِ، والتَّطرُّفِ والتّعصُّبِ الأَعمى بكُلِّ أَشكالِه وصُوَرِه"...
وما ورد أَعلاه مِن استشهاداتٍ، ما هو إِلاّ عيّنة عمّا ورد في "وثيقة الأُخوّة الإِنسانيّة" من دعواتٍ إِلى الانفتاح، يبقى أَردوغان حتّى السّاعة براءً منها!.
ويترقب العالم وبخاصّةٍ الأُرثوذكسيّ منه، الوضع الّذي ستُصبح عليه "آيا صوفيا"، الّتي كانت كاتدرائيّةً خلال 916 سنةً، وجامعًا لـِ481 سنةً، ومُتحفًا لـِ85 سنةً. وحتّى السّاعة، يبدو أَنّ أَردوغان يحرق ويُدمّر كُلّ ما بناه أَتاتورك من مجدٍ عظيمٍ للأَتراك، ويعمل على قيادتهم نحو الرّجعيّة والتّطرُّف والدّمار!.